أجمل حكمة عن الحياة: “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً”

في مجمل ما تركه الحكماء والأنبياء والفلاسفة من كلمات تُضيء مسيرة الإنسان في هذه الحياة، تبقى بعض العبارات خالدة في معناها، لا تفقد قيمتها بمرور الزمن، بل تتجدد أهميتها مع تعاقب الأجيال، ومن بين تلك الحكم النادرة والعميقة، تبرز حكمة: “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً”. تحمل هذه الحكمة في طيّاتها توازناً دقيقاً بين الطموح الدنيوي والمسؤولية الأخروية، بين العمل والاستمتاع بالحياة، وبين الزهد والتخطيط للمستقبل، وهي حكمة تجمع بين الواقعية والروحانية في آنٍ واحد، ما يجعلها من أجمل ما قيل عن الحياة.

المعنى العميق للحكمة

إن التأمل في هذه الحكمة يكشف لنا عن نظرة متوازنة وشاملة للحياة. ففي شطرها الأول: “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً”، دعوة واضحة إلى الاستمرارية في السعي والعمل، إلى الطموح والتخطيط، وإلى بناء مستقبل ممتد لا تفرض عليه الأقدار حدًا زمنيًا معروفًا. الإنسان مطالب بأن يزرع، وإن لم يكن متأكداً من أن يعيش ليحصد. أما في الشطر الثاني: “واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً”، فهو دعوة إلى الاستعداد الدائم، إلى محاسبة النفس، واليقظة الروحية، وكأن الموت على مقربة نفس، لا يُمهل ولا يُؤجل، مما يحمّل الإنسان مسؤولية أخلاقية وروحية عظيمة.

إن هذا التوازن بين الأبدية الزمنية في الدنيا، وبين اللحظة الآنية في الآخرة، يُعلّمنا أن لا نُفرط في التعلّق بمتع الحياة الزائلة، ولا أن نُهمل متطلباتها بحجة الزهد. بل يُعلّمنا أن نُتقن العمل، ونتقن العبادة، ونعيش حياة متكاملة.

أصول الحكمة في الفكر الإسلامي

ترجع هذه الحكمة في نسبتها إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد وردت في سياق العديد من المواعظ التي كان يوجهها إلى المسلمين، مبيّناً لهم أن الحياة ليست دار لهو فقط، ولا دار حساب فقط، بل هي مزيج دقيق بين السعي والإيمان. هذه الرؤية المتوازنة هي جوهر الرسالة الإسلامية التي تدعو إلى الإعمار في الأرض والعبادة، كما قال الله تعالى:

“وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا” [القصص:77].

من هذا المنطلق، يمكن اعتبار هذه الحكمة تلخيصاً لموقف الإسلام من الحياة، فهي لا ترفض الدنيا، ولا تذم النجاح والطموح، بل تضع الإنسان في موقع المسؤولية، وتُحمّله أمانة التوازن بين الجسد والروح، بين المادة والقيم.

انعكاسات الحكمة على السلوك اليومي

تأثير هذه الحكمة لا يقتصر على التفكير الفلسفي أو الديني، بل يمتد ليشمل السلوك اليومي لكل فرد. فالشخص الذي يعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً، هو شخص يُخطط، يبني، يطوّر، يتعلّم، ويطمح. لا يسمح لنفسه بالركود، ولا يعيش في قوقعة الكسل أو الاتكالية. في المقابل، فإن الذي يعمل لآخرته كأنه يموت غداً، هو الذي يتحلى بالصدق، ويحرص على الإخلاص، ويبتعد عن الظلم، ويغلب على قراراته البُعد الأخلاقي، فهو يضع نصب عينيه حساب الآخرة في كل صغيرة وكبيرة.

هذا النوع من الوعي يخلق إنساناً منضبطاً، متزناً، نافعاً لمجتمعه، وأقرب إلى تحقيق السعادة النفسية والاستقرار الداخلي، لأنه لا يعيش في تطرف لا ديني، ولا في عزلة روحية.

أثر الحكمة على بناء المجتمعات

عندما تسود هذه الحكمة كمنهج حياة في مجتمعٍ ما، فإن هذا المجتمع يكتسب خصائص التوازن والازدهار الأخلاقي والمادي معاً. فالمجتمعات التي تشجّع أفرادها على أن يعملوا لدنياهم كأنهم خالدون، تشهد نهضة علمية، وعمرانية، واقتصادية، لأن الإنسان لا يدّخر جهدًا في الابتكار والإنتاج والعمل الجاد. وفي نفس الوقت، إذا كان ذلك الإنسان يعمل لآخرته كأنه يموت غداً، فإنه لا يغش، لا يفسد، لا يظلم، ولا يستغل. بل يسعى إلى الإصلاح، ويغلب القيم والضمير على الربح المادي.

وبهذا تتكامل عناصر البناء الحضاري في أي أمة: فالإنتاجية تتعانق مع القيم، والطموح يُضبط بالأخلاق، والإيمان يُترجم إلى أفعال نافعة للمجتمع.

مقارنة مع حكم أخرى عن الحياة

عبر التاريخ، صدرت آلاف الحكم عن الحياة، من فلاسفة الشرق والغرب، ومن الأدباء والحكماء والزعماء، مثل:

ورغم جمال هذه الحكم، إلا أن الحكمة العربية الإسلامية التي نتحدث عنها تبقى أكثر شمولاً، لأنها لا تكتفي بالحافز أو الأخلاق، بل تُضيف بُعدًا وجوديًا وروحيًا، وتربط بين الدنيا والآخرة.

الحكمة في ضوء الفلسفة والتفكير المعاصر

الفلسفة الحديثة التي تركز على الذات، والمعنى، والوجود، كالفلسفة الوجودية والفكر الإنساني، تجد في هذه الحكمة مادة عميقة للتأمل. فالفيلسوف الوجودي يتحدث عن الإنسان الذي عليه أن يصنع معناه بيديه، وأن يعيش وهو مدرك لنهايته. وهذا يتقاطع مع الشطر الثاني من الحكمة “كأنك تموت غداً”.

أما في فلسفات التطوير الذاتي المعاصرة، فنجد توافقًا مع الشطر الأول من الحكمة، الذي يدعو إلى التخطيط، والرؤية طويلة الأمد، والمثابرة.

إن هذه الحكمة تقدم فلسفة وجودية متكاملة دون الحاجة إلى تعقيدات لغوية أو تنظير مجرد. هي ببساطة تقدم للإنسان خطة عمل لحياته، دون أن تفصله عن مصيره الأبدي.

في التربية والتنشئة

من أرقى تطبيقات هذه الحكمة في الحياة، هو إدخالها كمبدأ في تربية الأطفال والنشء. فعندما نربي أبناءنا على أن يعملوا لدنياهم كأنهم خالدون، فإننا نُربّي فيهم الإرادة، والمثابرة، وحب التعلم، والاستعداد لتحمل المسؤولية. وعندما نعلمهم أن يعملوا لآخرتهم كأنهم سيموتون غداً، فإننا نغرس فيهم القيم، والصدق، والخشية من الظلم، والرحمة بالآخرين.

هذا النوع من التنشئة يخلق أجيالًا قادرة على النهوض بالمجتمع، وعلى إدارة شؤون الدنيا من دون أن تغرق في المادة، وعلى السعي للآخرة من دون أن تهجر الحياة.

الخلاصة النظرية: الحكمة كنموذج للحياة المتوازنة

في خضم الحياة اليومية التي تشهد تسارعًا مذهلاً في التكنولوجيا، والمادية، وتفكك القيم أحيانًا، تأتي هذه الحكمة كنبراس يضيء الطريق للباحث عن التوازن. إنها لا تدعوك للتقوقع، ولا للتهور، بل تضعك في المنتصف المضيء، حيث يمكنك أن تُنجز وتعبد، أن تبني وتتواضع، أن تُفكّر وتُحاسب نفسك.

ولعل أجمل ما في هذه الحكمة، أنها تصلح لكل زمان ومكان، لأنها تخاطب الفطرة البشرية، التي لا تجد طمأنينتها إلا في الاعتدال. هي ليست مجرد عبارة تردد في المجالس أو تُكتب في لوحات، بل مبدأ حياة يستحق أن يُبنى عليه المنهج التربوي، والاجتماعي، والروحي لكل أمة تسعى إلى العيش الكريم والمتوازن.

المراجع:

1. نهج البلاغة – الإمام علي بن أبي طالب.

2. تفسير الطبري – تفسير آية القصص:77.